منّيتُ النفس كثيراً بلقاء الراحل العظيم، المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال، فكان لي هذا والحمد لله في أكثر من مناسبة، وأكثر من مكان، لذا أعتبر نفسي أكثر حظاً من غيري ممن لم تتح لهم هذه الفرصة، لأن كل لحظة مع الحسين تعلّمُ الإنسان درساً جديداً...فأن التقي مع قائد سطّر التاريخ بيديه فتلك حظوة لم ينلها كثير من الناس...قائد كانت له العظمة..فكان له الحضور الدائم في الحياة وفي الممات، ومع أن اللحظة هي في نظر الناس جزء يسير من الزمان..إلا انها مع الراحل كانت رحلة عمر...ولا أريد أن أشرح أو أتحدث بالتفصيل عن جميع لحظات سعادتي والتي ما تزال تدق بعنف على أوتار الذاكرة، فالحسين رجل لا ينسى..لكنني أورد هنا آخر اللحظات عندما حظيت بشرف اللقاء وكان هذا في السادس عشر من شباط من العام 1993 حينما التقى رحمه الله مع أسرة اليرموك.
كان الحسين يتابع المسيرة الأكاديمية في الجامعات الأردنية عن كثب...ولم يكن مراقباً بعيداً ...فقد كان حاضراً وإن لم يكن ذلك جسدياً...يعيش في أفكارنا ...وعلى أية حال..فقد صافحنا جلالته على مدخل مبنى رئاسة الجامعة..ومن ثم غادرت إلى متحف التراث الأردني – وكنت يومها مديراً لمعهد الآثار والانثروبولوجيا – لأرحب والزملاء بالقائد..إذ كان من المقرر لأن يزور المتحف وأن يقضي هناك عشرون دقيقة ...أطل أبو عبد الله علينا..كما لو أن الشمس أشرقت..ترى النور يشع من محياه..يا إلهي ما أجملها من لحظة عندما لامست يداه الطاهرتان يدي..صافحني وشدّ على يدي..نظرت حولي..ويا لكثرة الجمع..لكنني لم أرَ إلا إيّاه..البسمة للجميع..صافح الجميع..ودلفنا إلى داخل المتحف..بدأت الكلام..أحاول أن أقدم لسيدي الحسين...معلومات عن حضارة الأردن وتاريخه في العصور الغابرة..كيف أتحدث عن التاريخ؟ لمن يكتب بل ويقرر التاريخ؟ نظراته شدتني إليه وأخذت عزيمتي جزءاً منها وبدأ الحديث..بعد ان زادني الحسين مضاء..كان مصغياً لكل كلمة نطقتُ بها..وكأنه عارف للقول قبل قوله..هذا هو تاريخ الأردن بين يدي الحسين..دامت الرحلة داخل أروقة المتحف 45 دقيقة..فقلت في نفسي ليتها طالت..ليت الزمان توقف وأنا بين يدي الحسين...شد على يدي مصافحاً ومهنئاً جهود الجامعة ..خرجنا من باب المتحف لنجد ذلك الجمع من طلبة وطالبات وموظفين وكأن كل الدنيا قد حضرت لملاقاة الحسين...دخل إلى الجمع كالداخل إلى منزله وكأنه يعرفهم واحداً واحداً...فصافح من وصلت يديه إليه..دفعته الجموع..لم يشتكٍ بل طلب المزيد..حاولت مع آخرين منع الناس عنه...يا إلهي ما أروعك يا أبا عبد الله كنت فينا أباً وأخاً ..إن رحلت أيها العظيم فعزاؤنا أنّ أبا الحسين قد امتطى صهوة جواده يتابع الخطو على مسيركم...نعاهدكم أن نبقى خلفه نسير..إن فارقت ناظرينا يا سيدي فأنت تسكن الوجدان والذاكرة والقلوب..رحمك الله
فارقنا الحسين بجسده ولكنه بقي بيننا بروحه، وقد عوّضنا الله بجلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، فمع وفاة الحسين بن طلال وتولي جلالة الملك عبد الله الثاني سلطاته الدستورية بدأ الأردن عهداً مشرقاً جديداً فطالت الإصلاحات مختلف مناحي الحياة بعزيمته ومضائه وهمته التي لا تلين.
أ.د. زيدان كفافي – رئيس جامعة اليرموك