يبدو أن وليم فوكسويل أولبرايت اقتسم وتلميذه الأمريكي اليهودي نلسون غلوك Nelson Glueck العمل الأثري في منطقة جنوبي بلاد الشام، حيث ركز الأول على فلسطين، بينما قام الثاني بإجراء مسوحات أثرية شاملة للمنطقة الواقعة شرقي نهر الأردن. وضمَّن غلوك نتائج مسوحاته الأثرية في الأردن في مجلدات نشرها عام 1951ميلادية بعنوان:
Explorations in Eastern Palestine
وعلى الرغم من أن المجلدات قد نشرت بعد حصول الأردن على استقلالها في عام 1946م، فإن هذا الباحث اليهودي أشار إلى الأردن على أنها المنطقة الشرقية لفلسطين.
لقي هذا المنهج التوراتي، الذي حمل أصحابه التوراة بيد والمعول بيد أخرى، نقداً واسعاّ وعدم قبول من عدد من الباحثين من أمثال الهولندي هنك فرانكن (Henk Franken) وغيره. كذلك لاحظ التوراتيون أنه قد فشل في تحقيق الأهداف التي قام من أجلها، وبناء عليه كان لا بد من إيجاد منهج جديد مقنع علمياً يحقق أهداف الصهيونية العالمية. من هنا، وبعد الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية من المملكة الاردنية الهاشمية في عام 1967م خرج علينا الباحث الإسرائيلي إسرائيل فنكلشتاين (Israel Finkelstein) بمنهجية جديدة تجمع بين شكل المستوطن (مخيم، أو قرية، أو بلدة، أو مدينة) وربطها بطبيعة المجتمع الذي عاش فيه (قبلي، أو فلاحي، أو متمدن). وبطبيعة الحال ربط بين المواقع التي يمكن وصفها مخيمات والمجتمع القبلي اليهودي الذي عبر إلى فلسطين حسب رأي التوراة. ولتحقيق هذه الغاية قام مباشرة بعد حرب حزيران في عام 1967م باجراء مسوحات أثرية في مناطق متعددة من فلسطين، ونشر نتائجها في كتاب عنوانه:
Finkelstein, Israel 1988;The Archaeology of the Israelite Settlement. Jerusalem: Israel Exploration Society.
ونقتبس أدناه ما ذكره فنكلشتاين حول منهج طبيعة المواقع الأثرية:
«The Settlement of the Israelites in the 12th and 11th centuries BCE, and their transformation from a society of isolated tribes into an organized kingdom, is one of the most exciting, inspiring, and at the same time controversial chapters in the history of the Land of Israel» (Finkelstein 1988:15).
ومن نافل القول أن فنكلشتاين أدرج أجزاء من الأردن في دراسته هذه، وعدّها جزءاً من اسرائيل القديمة (الصفحات 112 - 117).
أصبحت كامل فلسطين تحت الاحتلال الاسرائيلي بعد عام 1967م، مما سمح للباحثين الإسرائيليين وغيرهم من التوراتيين في كل العالم للقدوم إلى فلسطين والبحث فيها عن الآثار اليهودية. كما تم التركيز على عدد من المواقع، من أهمها القدس. كما ورافق هذا، وللأسف، مجموعة من الحفريات غير المشروعة التي قام بها مواطنون فلسطينيون للبحث عن آثار يهودية تدر عليهم دخلاً كبيراً. أي إن بعض المواطنين الفلسطينيين ساعدوا بطريقة غير مقصودة على البحث مع الاسرائيليين عن دلائل تثبت وجود اليهود على أرض كنعان.
شهد عام 1994 ميلادية تحولات سياسية على الساحة العربية- الإسرائيلية، وعلمية بخصوص الدراسات التوراتية. فعلى الصعيد السياسي، تبعت المصالحة الاسرائيلية-المصرية التي جاءت نتيجة لمباحثات كامب ديفيد في عام 1978م، اتفاقيتان الأولى: اتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والثانية اتفاقية وادي عربة بين الأردن واسرائيل. وأما على صعيد البحث التوراتي تشكلت في كوبنهاغن/ الدنمارك وفي عام 1994م مدرسة أسسها مجموعة من العلماء التوراتيين وعلى رأسهم توماس طومبسون (Thomas Thompson) وفيليب ديفيس (Philip Davis) أطلقوا على أنفسهم اسم: Revisionists or Minimalists إضافة لبعض العلماء الإسرائيليين ومن بينهم إسرائيل فنكلشتاين. وقد نادت هذه المدرسة بعدم الاعتماد الكلي على النصوص التوراتية في تفسير الآثار. وعلماً بأن هؤلاء، بنظرنا، لم يخرجوا من تحت العباءة التوراتية، إلا أن بعض العرب هللوا وكبروا لهم، وهم في طرحهم هذا جنحوا لتحقيق أهدافهم بطريقة ذكية جداً ترضي العرب بقولهم إن القدس لم تكن ذات أهمية سياسية خلال القرن العاشر قبل الميلاد.
ونذكر في هذا الصدد ما قاله صامويل هانتنغتون في محاضرة له ألقاها في American Enterprise Institute في عام 1992م ثم نشرها في مقالة عنوانها:
Huntington, Samuel, P. 1993; The Clash of Civilizations? Foreign Affairs Vol. 72, No. 3: 22-49. https://www.jstor.org/stable/20045621
أن الصراع الأممي في أساسه سيتحول بعد انتهاء الحرب الباردة من صراع بين بلدان في معسكرين شرقي وغربي إلى صراع ثقافي مبني على اختلاف المعتقدات الدينية. وبعدها طور هانتنغتون مقالته هذه إلى كتاب نشره في عام 1996م تحت عنوان:
Huntington, Samuel, P. 1996; The Clash of Civilizations and the Remarking of World Order. Washington: Simon & Schuster.
ولو نظرنا إلى ما نحن فيه الآن في منطقتنا العربية بشكل خاص، والعالم بشكل عام، لوجدنا أننا نطبق ما قاله ونشره هانتنغتون بالحرف.
أما فيما يخص الأردن، فقد نشر في عام 2000 ميلادية كتاب عنوانه: The Archaeology of Jordan
بمشاركة عدد من المؤلفين والباحثين الذين نقبوا في مواقع أثرية أردنية. وجاء الفصل الذي يتحدث حول الأردن في العصر الحديدي (حوالي 1200 - 586 قبل الميلاد) يحمل معلومات تؤشر على وصف بعض المواقع والمناطق بأنها إسرائيلية. وحدث أنني التقيت بأحد مؤلفي هذا الفصل في عام 2002 في مؤتمر بتورنتو بكندا وتحاورت معه حول ما نشر في هذا الفصل، وقال لي بالحرف الواحد: «نقلت هذا الكلام عن نص حجر ميشع»؛ فأجبته: «إن الملك المؤآبي ميشع يقول بأنه قد طرد المحتل الإسرائيلي من بلاده، والمحتل ليس صاحب مكان»؛ فأومأ برأسه موافقاً، وكتب لمحرري الكتاب لحذف هذه المسميات من الطبعات الجديدة للكتاب، وهذا ما كان.
إضافة لهذا الأمر، فقد قام فريق من جامعة سان دييغو الأمريكية، وهم على درجة عالية من المقدرة والكفاءة العلمية، ويمتلكون معدات ووسائل علمية متقدمة، بالتنقيب في منطقة وادي فينان بحثاً عن بقايا أثرية ودراسة لمناجم النحاس القديمة فيها. ونشر هذا الفريق نتائج أبحاثه في عدد من المجلات العلمية العالمية المعروفة، لكن ما يشير إلى سوء نواياهم هو تقرير نشر على uTube يقول فيه المشرفون على المشروع بأن مناجم النحاس هذه تخص الملك سليمان. ومن هنا وجدت من واجبي التحري حول هذه المعلومة فقمت بنشر بحث حولها أدحض فيه ما نشر،وعنوان البحث هو:
Kafafi, Zeidan 2014, New Insights on the Copper Mines of Wadi Faynan/Jordan. Palestine Exploration Quarterly 146/4: 263-280.
وبعد نشر البحث أعلاه قام أحد أعضاء الفريق الأمريكي بالرد على ما نشرت وأكتفي بكتابة عنوانه أدناه:
Najjar, Muhammad 2015; Solomonic Phobia or 10th Century BCE Phobia? Response to Zeidan A. Kafafi, «New Insights on the Copper Mines of Wadi Faynan/Jordan, PEQ 146.4 (2014), 263-80. Palestine Exploration Quarterly 147/3: 247-253.
وأكثر من هذا، تذكر النصوص التوراتية أن منطقة جلعاد الواقعة شرقي النهر كانت جزءاً من مملكة إسرائيل القديمة. وتضم هذه المنطقة الممتدة بين البلقاء في الجنوب ونهر اليرموك في الشمال عدداً كبيراً من المواقع الأثرية منها موقع يقع في محافظة الرمثا وبالقرب من جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية اسمه (تل الرميث). ويعتقد الباحثون التوراتيون أنه ربما يكون موقع (رموت هجلعاد) الوارد ذكره في التوراة. ولأهمية الموقع، قام الآثاري الأمريكي بول لاب (Paul Lapp) في بداية ستينيات القرن الفائت بإجراء تنقيبات أثرية فيه، وخرج برأي مفاده أن الموقع آرامي وتبع لمملكة دمشق الآرامية خلال العصر الحديدي الثاني (حوالي 1000 - 586 قبل الميلاد). وفي عام 2011م قامت مجموعة من الآثاريين الإسرائيليين بزيارة الموقع وكتبوا على أثرها مقالة عنوانها:
Finkelstein, I. et al. 2013; Tell Rumeith in Northern Jordan: Some Archaeological and Historical Observations. Semitica 55: 7-23.
وذكروا في هذا البحث أن تل الرميث كان جزءاً من منطقة جلعاد التابعة لمملكة إسرائيل، وليس لآرام دمشق كما ذكر المنقب الأصلي للموقع. وحيث إن الأمر هكذا، وأن ما نشره الإسرائيليون نتيجة لزيارة عابرة ولا تعتمد على أية منطق علمي فقد قمت بكتابة مقالة رداً على هذا الإدعاء وعنوانها:
Kafafi, Z. 2017; North Jordan During the Early Iron Age: An Historical and Archaeological Synthesis. Walking Through Jordan. Essays in Honor of Burton MacDonald. Pp. 63-77. Sheffield: Equinox Publishing.
طغى في عام 2011 ميلادية على الشارع الأردني بشكل عام، والأثري بشكل خاص، موضوع الدفاتر الرصاصية المكتوبة على ورق معدني (الرصاص أو النحاس) والمعروفة (Codices) وأرخت حسب رأي بعض الباحثين لزمن السيد المسيح وأنها مكتوبة بخط عبري، أي إنها تخص طائفة يهودية سكنت في منطقة شمالي مدينة إربد بالقرب من بلدة سحم. وانقسم الرأي الأكاديمي الأردني بين قائل إنها أصلية، وآخر بأنها مزيفة، كما تشكلت لجنة علمية (مركز) لدراستها في جامعة مانشستر البريطانية. ولفض هذا الاشتباك العلمي شكلت دائرة الآثار العامة الأردنية لجنة من عدد من المتخصصين الذين أعلنوا أنها غير أصلية، بل مزيفة. وبنظرنا لو أن ادعاء أصحاب القول بأصالتها وصحة النصوص المكتوبة بها هذه الدفاتر كان صحيحاً لكان هذا إثباتاً تبحث عنه الصهيونية العالمية على أن اليهود القدامى كان لهم موطن بشمالي الأردن.
وأخيراً انشغل الشارع الأردني مع بداية شهر آب الحالي بحادثة صلاة مجموعة من اليهود الإسرائيليين اقتحموا مقام النبي هارون في البتراء عنوة، لأداء صلاتهم فيه. في رأينا فإن هذه الحادثة لن تكون آخر المطاف لتأكيد على وجود اليهود في شرقي نهر الأردن، بل ستتبعها في المستقبل محاولات أخرى. وللوقوف في وجه هذه الحملات التي تعتمد في رأيها على النصوص التوراتية والبقايا الأثرية لا بد من رأي علمي يقابل الحجة بالحجة، ويكفينا عنتريات وتهويشاً. ويجب علينا توجيه مجموعة من الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها، ومنها، من هم اليهود الأوائل، أي أتباع النبي موسى؟ وهل خرج جميعهم من مصر؟ ومن هو الإله (إلههم) الذي وعدهم بالأرض المقدسة (يهوه أم إلوهيم)؟ وما هي حدود الأرض الموعودة؟ وكيف عرف الناس أن مقام النبي هارون في البتراء هو قبره؟
وللإجابة على بعض هذه الأسئلة يجب علينا الاعتراف بأن الكتب الدينية السماوية تعترف بالخروج، لكن هل كان هذا الخروج بنفس الصورة التي رسمتها التوراة؟ على الأقل من ناحية العدد الكبير (600 ألف شخص خرج من مصر...!!). كما أننا نلفت النظر إلى أن حادثة الخروج لم تذكر في أي نص تاريخي، حتى الفرعوني منها. وأن أول ذكر لكلمة «إسرائيل» في المصادر التاريخية جاء على مسلة الفرعون المصري مرنبتاح (حوالي 1207 قبل الميلاد) ، والكلمة تعود لشعب وليس لأرض. كما أن بعض العلماء الغربيين يشككون بأن السطرين الأخيرين من الكتابة الموجودة على المسلة، وتضم كلمة إسرائيل، قد أضيفت في مرحلة لاحقة، لأن موضوع المسلة يتحدث عن انتصار الفرعون المصري على القبائل الليبية في غربي مصر. ونضيف هنا أيضاً، أنه ومع عدم معرفتنا للإله الذي وعد الخارجين من مصر بالأرض الموعودة، فإن هذا الجيل الموعود بالأرض لم يدخلها لمرور أكثر من أربعين عاماً على التيه وضياعهم في سيناء، ولهذا على الأغلب أن يكونوا قد قضوا، حتى لو افترضنا صحة قصة الخروج. ومن يريد معرفة رأينا بهذا الخصوص عليه مراجعة بحثنا المنشور عام 2019 م في مجلة أدوماتو التي تصدر عن (مركز عبد الرحمن السديري) بالرياض.
كفافي، زيدان؛ فلسطين خلال العصر الحديدي الأول (1200 - 1000 ق.م.). دراسة مقارنة بين الروايات التوراتية والبيانات الأثرية. أدوماتو 39: 7 - 28.
إجابة للسؤال: هل مقام هارون في البتراء هو قبر النبي هارون أخ النبي موسى؟ نعلم أنه وأثناء سيطرة الصليبيين على بلاد الشام، ومحاولة الأيوبيين طردهم من الأرض المقدسة، أجج ملوك الأيوبيين ومن تبعهم من المماليك الوازع الديني لدى أهل المنطقة ببناء المقامات والأضرحة لأولياء الله. وأوقف هؤلاء التبرعات والنذور التي تقدم لمقامات الأولياء الصالحين لصالح المجهود العسكري، وخاصة تحرير القدس، وهذا ما كان. إذن فإن من أعطى أسماء لهذه المقامات هم المسلمون، ومن هنا نرى أنهم يزورونها سنوياً وبشكل منتظم ويذبحون الأضاحي عندها. وهل نتناسى كيف يحتفل الناس سنوياً بموسم للنبي موسى كان ينطلق من القدس باتجاه مقامه بالقرب من أريحا في منطقة غربي البحر الميت.
ونسأل في نهاية الأمر، من هم اليهود الأوائل، أي من هم أتباع النبي موسى؟ وكون أننا مسلمون نعترف بالديانات السماوية الثلاث، وأن الدين الإسلامي جاء مكملاً للديانتين اليهودية والنصرانية، فإن أتباع موسى هم من بين ظهرانينا، من أهل هذه المنطقة ولا علاقة لهم بصهاينة هذه الأيام المحتلين لأرضنا العربية. ويجب أن نعترف بقصورنا وضعفنا أمام الإمكانات المادية والعلمية والقوة للصهيونية العالمية وقدرتها على قلب الأمور وتزييف ومصادرة التاريخ. لكن الأهم من هذا، وأفضل رد عليه هو تضافر الجهود، والوحدة الوطنية التي تتشابك فيها الأيدي وتتلاحم فيها الأجساد خدمة للأردن وفلسطين. ولا بد من وقفة وصمود خلف الراية الهاشمية المدافعة عن الحقوق والثوابت العربية بقيادة صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبدالله الثاني المعظم حفظه الله ورعاه.
برلين يوم الأربعاء الموافق 7/ 8/ 2019م