شهدت نهاية القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر حملة نابليون على مصر وكان من ضمنها عدد من العلماء والباحثين في دراسة التاريخ والآثار، خاصة في مجال الدراسات الأثرية. وبعدها استطاع العالم شامبليون وهو من أعضاء الحملة فك رموز حجر الرشيد المكتوب بلغات ثلاث هي: اليونانية، والهيروغليفية، والهيراطيقية، مستعيناً بمعرفته باللغة اليونانية. وباعتقادنا أن هذه الحملة جاءت لتؤكد استمرار الصراع الحضاري بين العالمين الشرقي والغربي، والذي بدأ مع قدوم الإسكندر المكدوني في عام 332 قبل الميلاد. وبعد سقوط القدس في عام 63 قبل الميلاد على يد القائد الرومي بومبي، خضعت أجزاء كبيرة من بلاد الأناضول وشرقي البحر المتوسط وشمالي إفريقيا لحكمهم. وفي الوقت ذاته، كان يحكم هذه البلاد عدد من الممالك العربية المحلية، مثل المملكة التدمرية، والنبطية في بلاد الشام، ومدينة قرطاج الفنيقية في تونس الحالية. وقد سادت في هذه المرحلة في العالمين الشرقي والغربي الأديان الوثنية، مع وجود عدد قليل من أتباع الديانة اليهودية الذين أعادهم ملكا الفرس قورش وقمبيز في حوالي 538 قبل الميلاد إلى فلسطين. ومن نافل القول أن سلالة (حشمونيم) كانت تحكم في منطقة القدس والمناطق المحيطة بها (يهودا) خلال حكم السلوقيين، واستطاعت ولفترة قصيرة بين سنتي 140 - 116 قبل الميلاد الاستقلال عن حكمهم. وبعد انهيار الحكم السلوقي في حوالي 110 قبل الميلاد استطاعت هذه الأسرة أن توسع نفوذها إلى مناطق نابلس وجبال الجليل. لكن هذا الأمر لم يستمر طويلاً، إذ قضى الروم بقيادة بومبي في عام 63 قبل الميلاد على هذه الأسرة، وأنشأ بدلاً عنها كياناً يدين بالولاء للإمبراطورية الرومية وتم تعيين «هيرودس الكبير في حوالي 40 قبل الميلاد ملكاً عليها. وحاول هذا الملك تأكيد شرعيته بالحكم فتزوج من امرأة اسمها «مريم» من السلالة الحشمونية. وتؤكد المصادر التاريخية المكتوبة العداء المتأصل بين مملكتي هيرودس الكبير والنبطية.
استطاع الامبراطور الرومي قسطنطين الأكبر أن يستولي في عام 312 ميلادية على الحكم في روما، وأخذ يشجع على اعتناق الديانة المسيحية. واعترف في عام 324 ميلادية بالديانة المسيحية ديناً رسمياً للدولة الرومية، وتعاظم بعدها اهتمام الغرب بالأرض المقدسة، خاصة بعد انتشار الديانة المسيحية في مناطق واسعة من الإمبراطورية الرومية وقيام القديسة هيلانة بزيارة القدس وبنائها كنيسة القيامة فيها. نتيجة لهذا بدأ تنافس بين الديانتين اليهودية والمسيحية، خاصة وأن المجتمع اليهودي رفض بشدة الديانة المسيحية، في الوقت نفسه تبنتها المجتمعات العربية مثل النبطية والقبائل الغسانية. وبعدها شهد الوجود اليهودي تراجعاً كبيراً لا يخرج عن كونه قبائل متفرقة هنا وهناك دون أن يكون لها أي كيان سياسي يجمعها. لكن وفي عام 614 ميلادية استطاع الجيش الفارسي وبمؤامرة من اليهود المتبقين في القدس أن يدخل المدينة وأن يقوم بذبح النصارى فيها ذبح النعاج وتهجير من لم يقتل منهم إلى خارجها.
وبعد بزوغ فجر الإسلام وهجرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى يثرب (المدينة المنورة) في عام 622 ميلادية وجد فيها مجتمعاً يهودياً مكوناً من ثلاث قبائل هي: بنو قينقاع، وبنو النضير وبنو قريظة. علماً أن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وقع معها اتفاقاً إلاّ أنه دمرها وهجرها خارج المدينة تباعاً، وعلى النحو الآتي:
- اجلاء قبيلة بني قينقاع عن المدينة في عام 624 ميلادية، وبعد غزوة بدر.
- إجلاء قبيلة بني النضير عن المدينة في عام 625 ميلادية.
- القضاء على قبيلة بني قريظة بعد عودة الرسول من غزوة خيبر.
ولقد قام الرسول بعدها وفي عام 628 ميلادية بغزوة خيبر حيث استطاع اخضاع المدينة التي كان ساكنوها من اليهود. ونتيجة لهذه الغزوة عقد الرسول اتفاقية مع الجالية اليهودية في المدينة وكانت شروطها مواتية لليهود، حيث تزوج من ابنة (حيي ابن أخطب)، وانتقل بعدها إلى الرفيق الأعلى في عام 632 ميلادية.
بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، انتقل الحكم إلى الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم إلى الأمويين وتم خلال حكمهم انتشار الإسلام فوق مناطق واسعة من العالم امتدت من أواسط آسيا في الشرق إلى المحيط الأطلسي في الغرب. ونتيجة لهذا أخذت الديانة الإسلامية تحل محل الديانتين اليهودية والنصرانية في كثير من بلدان آسيا، وإفريقيا. وهنا بدأ صراع ديني - سياسي للسيطرة على العالم القديم بين أصحاب الديانات السماوية الثلاث. لكن وفي عام 1258 ميلادية تعرضت بلاد المسلمين لحملات المغول الذين قضوا على الخلافة العباسية في بغداد، فانتقل من بقي على قيد الحياة من العباسيين إلى القاهرة. وتم تقسيم العالم الإسلامي إلى دول تتصارع بينها، فكانت هناك الممالك الصفوية والفاطمية التي حكمت العالم الإسلامي في القرن العاشر الميلادي. استمرت الخلافة العباسية في مصر قائمة بالإسم حتى عام 1519 ميلادية عندما اجتاحتها الجيوش العثمانية فتنازل آخر خلفائها عن لقبه «خليفة المسلمين» لسلطان آل عثمان (سليم الأول) الذي نقل العاصمة من القاهرة إلى القسطنطينية.
لم يرق لأوروبا المسيحية أن تكون الأراضي المقدسة، وخاصة مدينة القدس، تحت سيطرة المسلمين، فقامت في الفترة بين 1096 وحتى 1291 ميلادية بمجموعة من الحملات والحروب التي سميت باسم «الحروب الصليبية» لأنها كانت ذات طابع ديني. إدّعى القائمون على هذه الحروب أنها جاءت استجابة لدعوة من الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية الشرقية لمساعدتهم لوقف زحف المسلمين السلاجقة في بلاد الأناضول، لكنها كانت في الحقيقة للسيطرة على الأراضي المقدسة ولأمور اقتصادية أخرى.
لم يقطع العالم الغربي بعد انتهاء الحروب الصليبية صِلاته مع العالم الشرقي، إذ واصل عدد من الرحالة والمستكشفين زياراتهم للمنطقة، خاصة الأراضي المقدسة، وتقديم التقارير حولها للمؤسسات والهيئات الغربية التي مولت رحلاتهم. وما كان هذا ليكون لولا اهتمام العالم الغربي بتثبيت المعلومات الواردة في الكتاب المقدس المكون من العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل)، وكأنه يأتي إحياء لعهد الحروب الصليبية. تبع هذا الأمر، وفي منتصف القرن التاسع عشر، مرحلة الصراع بين النصوص الدينية التوراتية والعلوم البحتة، إذ قدم العالم داروين نظريته في كتابه «أصل الأنواع» والذي أبان فيه أن عمر العالم يتعدى 4006 سنوات كما قدره علماء التوراة، وذكر أن هناك بقايا حياتية من نباتية وحيوانية يتعدى عمرها ملايين السنين. من هنا شعر القائمون على الدراسات التوراتية أن تفسيراتهم للنصوص التوراتية غير دقيقة. أدى هذا بطبيعة الحال إلى أن يقوم بعض من أهل الديانات السماوية بتكفير داروين ورجمه ومن تبع نظريته بالكفر والإلحاد. من هنا نجد أن هناك صداماً حاداً بدأ يظهر مع منتصف القرن التاسع عشر بين العلم والدين. من هنا كان لا بد لأهل الكنيسة من أن يجمعوا أنفسهم وأن يردوا بشكل علمي ومنظم على من يخالف المعلومات التوراتية. وحتى يتم الأمر شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهور أمرين هامين، هما:
1. تأسيس المدارس والمعاهد الأثرية الغربية: صندوق استكتشاف فلسطين (Palestine Exploration Fund) تأسس في عام 1860 ميلادية على يد أساقفة كنيسة كانتربري في انكلترا. وقد أعلن القائمون عليه أن الهدف من تأسيسه هو إثبات صحة ما جاء في التوراة. وتبع تأسيس هذه المؤسسة تأسيس عدد من المدارس والمعاهد المشابهة في عدد من الدول الأوروبية (ألمانيا وفرنسا)، والأمريكية (الولايات المتحدة الأمريكية).
2. تم في مدينة بازل السويسرية في عام 1896م انطلاق الحركة الصهيونية، والتي كان من أهم أهدافها إيجاد وطن قومي لليهود، وبالتحديد في فلسطين.
لقد قامت هذه المدارس خلال الفترة السابقة للحرب العالمية الأولى بإجراء حفريات أثرية في عدد من المواقع الأثرية التي ورد ذكرها في التوراة مثل أريحا، وتل المتسلم (مجدو) ، والقدس. لكنهم استخدموا وسائل بسيطة للتنقيب الأثري، كما أن اهتمامهم كان بالقطع الأثرية المتميزة والثمينة. أي حاول المنقبون استخدام المعتقدات الدينية التوراتية وربطها مع الآثار المكتشفة في هذه المواقع.
وحيث إن الشيء بالشيء يذكر فقد شهد بداية القرن العشرين عدة متغيرات سياسية في البلدان العربية، خاصة الواقعة شرقي البحر المتوسط وفي الجزيرة العربية، ومنها:
1. التفاف الضباط العرب في الجيش العثماني (جمعية العربية الفتاة) حول شريف مكة (المغفور له الحسين بن علي) والمطالبة بتأسيس دولة عربية بقيادته، ثم قيامه بالثورة العربية الكبرى (مشروع النهضة العربي).
2. سقوط الدولة العثمانية وانتهاؤها نتيجة للحرب العالمية الأولى.
3. تصريح بلفور وزير الخارجية البريطانية الذي ينص على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
4. نفي الشريف حسين، والقضاء على المملكة العربية السورية الفيصلية بعد معركة ميسلون في عام 1920م.
5. الهجرات اليهودية بتشجيع من الانتداب البريطاني إلى فلسطين، وإنشاء «الوكالة اليهودية» لشراء الأراضي في البلاد المقدسة.
خلال الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين قام الآثاريون التوراتيون بعدد كبير من المسوحات والحفريات الأثرية التي شملت كل مناطق فلسطين وبعض أجزاء من الأردن، وذلك بتمويل من مؤسسات علمية يسيطر عليها الفكر التوراتي، مثل «المدارس الأمريكية للدراسات الشرقية «American Schools of Oriental Research». أي إن الدين أصبح مكوناً رئيساً في رسم المستقبل السياسي لفلسطين اعتماداً على ما ورد في النصوص التوراتية، في محاولة لتثبيت صحتها باكتشافات أثرية، وتفسيرها بالطريقة التي تناسبهم. ليس هذا فقط، وحتى يتم الأمر بشكل علمي فقد اقترح هؤلاء التوراتيون عدداً من المصطلحات والتسميات وأطلقوها على الفترات الزمنية منها: الكنعانية وقد أُطلقت على فترات العصور البرونزية الممتدة من حوالي 3600 - 1200 قبل الميلاد، والإسرائيلية على العصر الحديدي الممتد بين حوالي 1200 وحتى 586 قبل الميلاد. كما قسم الباحثون التوراتيون التاريخ اليهودي لعدة مراحل، وعلى النحو الآتي:
1. مرحلة الآباء (Patriarchs): وهي المرحلة المؤرخة بين حوالي 2000 و1200 قبل الميلاد وشهدت ظهور الأنبياء إبراهيم وإسحق ويعقوب وذريتهم.
2. مرحلة المملكة الموحدة (United Kingdom) وهي المرحلة التي تبدأ بحكم شاؤول في حوالي 1004 قبل الميلاد وتبعه داود ثم ابنه سليمان وتنتهي في حوالي 923 قبل الميلاد.
3. انقسام المملكة الموحدة إلى مملكتين، هما السامرة في الشمال وقضى عليها الملك الآشوري سرجون في عام 722 قبل الميلاد، ومملكة يهوذا في الجنوب ودمرها الملك نبوخذنصر الكلداني في عام 586 قبل الميلاد وسبى أهلها إلى بابل.
4. فترة سبي اليهود في بابل حتى أعادهم قورش سنة 538 قبل الميلاد.
تشتت اليهود بعد احتلال بومبي للقدس في عام 63 قبل الميلاد في أصقاع متعددة ومتباعدة من بلاد الشرق الأدنى القديم، ولم تجمعهم أية وحدة سياسية بعدها. لكن من بقي في القدس هم الذين أرشدوا قادة حملة الفرس على كيفية اقتحامها في عام 614 ميلادية، ونكلوا بالنصارى فيها. وبناء عليه، ورد في العهدة العمرية وبناء على طلب من كاهنها المسيحي «صوفرونيوس» ألاّ يبقى أي يهودي فيها». وكأن اليهود بهذا يردون الجميل للفرس حيث أرجعهم قورش إلى فلسطين من منفاهم في بابل.
عودة إلى متابعة الحديث حول تطويع الآثار في خدمة الدين والسياسة، إذ قام الباحثون التوراتيون في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية بعدد كبير من التنقيبات والمسوحات الأثرية في مواقع فلسطينية، مثل: أريحا، والقدس، وتل المتسلم، وتل بيت مرسم. وكان الهدف الأساسي لهذه المشاريع هو البحث عن المدن الكنعانية التي دمرتها القبائل الإسرائيلية في طريقها وهي خارجة من مصر إلى الأرض الموعودة، والتي حددتها التوراة بمنطقة تضم فلسطين الجغرافية ومناطق أخرى مجاورة لها. وتذكر التوراة، أنه وبعد أن استقر الأمر للقبائل الاسرائيلية في فلسطين، قامت بتوزيع الأراضي التي احتلتها بالقوة فيما بينها، حيث حصلت تسع قبائل ونصف على الأراضي المحتلة في فلسطين، وقبيلتان ونصف على أراضٍ من شرقي نهر الأردن. والقارئ للنصوص التوراتية بهذا الخصوص قد يتوهم بأن أصحاب الأرض الأصليين قد رفعوا الرايات البيضاء واستسلموا للمحتل دون أدنى مقاومة. ومارس الباحثون التوراتيون في هذه المرحلة منهجية تعتمد على الربط بين المكتشفات الأثرية - خاصة تطور أشكال الأواني الفخارية، والقطع الأثرية التي تحمل كتابة - وربطها مع تتابع الطبقات التي تشكل الموقع الأثري. ومؤسس هذه المدرسة ورائدها هو الأمريكي وليم فوكسويل أولبرايت (William Foxwell Albright)الذي نقب خلال ثلاثينات القرن العشرين في موقع تل بيت مرسم بمنطقة الخليل، ونشر كتاباً له بعنوان:Archaeology of Palestine. ولا يزال كثير من الباحثين الأثريين يتّبعون هذا المنهج في تفسير نتائج حفرياتهم الأثرية.